
خلال الأيام الأخيرة من الحرب المفروضة التي شنّها نظام صدام حسين على إيران، نفذت جماعة “مجاهدي خلق” (المعروفة في إيران بـ”المنافقين”)، بدعم مباشر من الجيش البعثي العراقي، عملية عسكرية واسعة النطاق ضد الأراضي الإيرانية سمتها “فروغ جاويدان” . وقد واجهت القوات المسلحة الإيرانية هذه المحاولة العدوانية بعملية مضادة سُمّيت ب”مرصاد”، أُحبطت من خلالها الهجمة بالكامل.
تُطرح في هذا السياق إشكاليات قانونية جوهرية تتعلق بمكانة المواطن الذي يتعاون عسكريًا مع دولة معادية ضد سيادة بلده في إطار نزاع مسلح. ويهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الأبعاد القانونية لهذه الظاهرة من خلال فحص القانون الجنائي الداخلي، والقانون الدولي الإنساني، والممارسات المقارنة في النظم القانونية الأخرى.
تحوّل زمرة مجاهدی خلق إلى طرف في النزاع
خلال واحدة من أطول الحروب التقليدية في القرن العشرين، تخطّت زمرة مجاهدی خلق حدود المعارضة السياسية، وبانتقالها إلى الأراضي العراقية واندماجها العملياتي مع جيش صدام، أصبحت فعليًا طرفًا مشاركًا في النزاع المسلح ضد إيران. وقد تجلّى ذروة هذا الانخراط في عملية “فروغ جاويدان” التي أطلقتها الجماعة في مرداد 1367هـ.ش (يوليو 1988) بهدف إسقاط النظام السياسي الإيراني، لكنها لم تُمنى بالفشل العسكري فحسب، بل ترتب عليها تداعيات قانونية وأخلاقية عميقة.
“فروغ جاويدان”: مغامرة عسكرية بُنيت على تحليل خاطئ
في 25 يوليو 1988، وبعد أيام من قبول إيران لقرار مجلس الأمن رقم 598، انطلقت قوات مجاهدی خلق بتنسيق كامل مع الجيش العراقي من الحدود الغربية باتجاه مدينة كرمانشاه، في محاولة لاجتياح البلاد. وقد استند هذا الهجوم إلى تقديرات خاطئة حول الوضع الداخلي الإيراني.
وردًا على ذلك، أطلقت القوات المسلحة الإيرانية عملية “مرصاد”، حيث تم صدّ الهجوم خلال أيام قليلة، وكُبد المهاجمون خسائر فادحة، بلغت وفق التقديرات أكثر من 1500 قتيل من عناصر الجماعة.
البعد القانوني: الخيانة والتعاون مع العدو
وفقًا للقانون الجنائي الإيراني، تُعدّ الأعمال التي قامت بها الزمرة مثالًا صريحًا للتعاون مع دولة معادية. وتنص المادة 508 من قانون العقوبات الإسلامي على أن “كل من يتعاون مع دولة معادية بأي وسيلة ضد الجمهورية الإسلامية، يُعاقب بالسجن من سنة إلى عشر سنوات، ما لم يكن محاربًا”.
كما تنص المادة 279 على أن “كل من أشهر السلاح لبث الرعب أو لمواجهة النظام الإسلامي، يُعدّ محاربًا”. وبهذا، فإن العمليات المسلحة التي قادتها الجماعة تنطبق عليها، إذا توافرت النية الإجرامية.
وتُضاف إلى ذلك المادة 501 التي تُجرّم تسليم الوثائق أو الأسرار المتعلقة بسياسة الدولة لمن لا يحق لهم الاطلاع عليها، بطريقة تُشكّل تجسسًا، وهو ما ينطبق على تعاون المنظمة الاستخباراتي مع النظام البعثي العراقي.
موقف القانون الدولي الإنساني
يشير القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الثالثة (1949)، إلى أن الحماية كـ”أسرى حرب” تُمنح لأفراد القوات المسلحة النظامية أو المقاومة المنظمة ممن تتوافر فيهم شروط محددة: قيادة مسؤولة، شارة مميزة، حمل السلاح علنًا، والتزام بقواعد الحرب.
لكن جماعة مجاهدی خلق، في إطار عملية “فروغ جاويدان”، لم تكن تفي بهذه الشروط. إذ لم تكن جزءًا من الجيش العراقي رسميًا، ولم تكن تحمل شارات مميزة أو زيًا عسكريًا موحدًا، كما وردت تقارير عن ارتكابها أعمال عنف ضد المدنيين، ما يُعد انتهاكًا صارخًا لقوانين الحرب. وبالتالي، فإن المطالبة بصفة “أسير حرب” لأفراد هذه الجماعة تُعدّ غير ذات سند قانوني في ضوء القانون الدولي الإنساني.
اختصاص المحاكم الوطنية
يُقرّ القانون الدولي الجنائي بحق الدول في محاكمة الجرائم الواقعة على أراضيها أو المرتكبة من قبل رعاياها. وبما أن عملية “فروغ جاويدان” وقعت داخل الأراضي الإيرانية، وكان المنفذون يحملون الجنسية الإيرانية، فإن الجمهورية الإسلامية تملك كامل الأهلية القضائية في هذا الصدد.
وتجيز المادة 5 من اتفاقية جنيف الثالثة للدولة، عند وجود شك في انطباق المادة 4، عرض القضية على محكمة مختصة لتحديد الوضع القانوني للفرد، وإذا قررت المحكمة عدم شمول الحماية، فإن المحاكمة الجنائية الوطنية تصبح مشروعة تمامًا.
تجارب دولية مماثلة
شهدت العديد من الدول حالات مشابهة خلال القرن العشرين، وتصدت لها عبر أجهزتها القضائية:
فرنسا: بعد تحريرها من الاحتلال النازي، لاحقت السلطات أكثر من 10 آلاف متعاون، من بينهم المارشال بيتان الذي أُدين بالخيانة العظمى.
النرويج: أُعدم فيدكون كويزلينغ، زعيم الحكومة العميلة للنازيين، بتهمة التعاون مع العدو.
بولندا وتشيكيا: حُوكمت عناصر أمنية وميليشيات متعاونة مع الاتحاد السوفيتي بعد الحرب الباردة، بموجب القوانين الداخلية.
كرواتيا: أقامت جماعة “أوستاشه” حكومة عميلة بدعم ألماني خلال الحرب العالمية الثانية، وخاضت قتالًا ضد الحكومة اليوغوسلافية. وبعد الحرب، خضع أفرادها لمحاكمات بتهم الخيانة وجرائم الحرب.
الهند: شكلت مجموعة من القوميين الهنود قوة عسكرية بدعم ياباني لمحاربة البريطانيين، وبعد هزيمة اليابان، حُوكم قادتهم أمام محاكم عسكرية بتهمة الخيانة والتعاون مع العدو، ولم يُمنحوا حماية اتفاقيات جنيف.
تُظهر النصوص القانونية الوطنية والدولية أن عملية “فروغ جاويدان” تُمثل بوضوح تعاونًا عسكريًا واستخباراتيًا مع عدو متحارب في زمن الحرب. ووفقًا للقانون الجنائي الإيراني، تشمل أفعال المنظمة جرائم مثل المحاربة، التجسس، والإخلال بالأمن القومي. كما أن الجماعة لا تستوفي الشروط القانونية للاستفادة من الحماية التي تمنحها اتفاقية جنيف الثالثة.
وتؤكد المقارنات الدولية أن العديد من الدول واجهت خيانات مماثلة من قبل مواطنيها بالتقاضي الجنائي أمام محاكمها الوطنية، ما يضفي على الإجراءات الإيرانية شرعية قانونية متكاملة.
وعليه، تُعدّ دراسة الأبعاد القانونية لعملية “فروغ جاويدان” نموذجًا تحليليًا مهمًا لفهم كيفية مواجهة ظاهرة الخيانة الوطنية في سياق النزاعات المسلحة، في ضوء القانونين الداخلي والدولي.
رضا القزويني – باحث و کاتب في الشؤون الإيرانية